...مذكرات د.كوثر © 2007-2018 جميع الحقوق محفوظة للكاتبة.لا يمكن نسخ أو استخدام أي من المحتوى بأي شكل بدون ذكر المصدر...

Thursday, April 16, 2009

مذكرات ~ 16

قالت وفاء، والتي ظلّت صامتة محدّقة بي طيلة الفترة التي حكيتُ فيها: يا لها من حياة ! وانطلقت نورا من عقالها: يا إلهي لم تخبريني بكلّ هذا ! كنتِ دائمًا تحدثينني عن رائد وحبّ الدنيا في عينيكِ حتى خُيّل إليّ أحيانًا أنّه جدّي لا سواه، لم تحدثيني أبدًا عن جدّي بأكثر مما تتحدث عنه بطاقتي الشخصية. وأنا الأخرى، كيف لم أسألك، ربما في حضرة حكاياتك مع رائد لا يعود لأي شخص آخر أيّ حضور.


ابتسمتُ وأنا أجرجر الذكرى، لأصبّ لنفسي فنجانًا من القهوة، وآخذ لوحًا من الشوكولا، ضربًا بتعليمات الطبيب عرض الجدار، رددتُ: تحليل منطقي.

نطقت ريم أخيرًا: تعرفين. لقد ذكرتِ للتوّ ما سيحدث لي إن خضعتُ لضغوط أهلي والمجتمع من حولي، والذين ما إن يروني في مكان ما، لا يهتمّون إلا بسؤالي إن كنتُ قد تزوجتُ أم لا، ثم يلحقون ذلك بدعواتهم المعجونة بالشفقة أو التشفّي، هل تعرفين كم أضحك عليهنّ؟ خصوصًا على واحدة تدعو لي باستعلاء وكأنها تراني أمدّ يدي كغريقة من بئر إلى زوج معرض عنّي، بينما هي قد وجدت من ينظر في وجهها ويتزوجها، رغم أنني متأكدة أنه لم يعد يفعل، بمنظرها ذلك الذي بالكاد يجعلني أنا أنظر إليه عندما تحدّثني! لكنّ هذه ثقافة عالمية في مجتمعنا، أن نسألك عن أشيائك الملموسة، التي نراها. مع أنّنا ندّعي الإيمان بالغيب والملائكة والله والرسل، وكل هؤلاء لم نرهم يومًا، لكننا لا نسأل بعضنا إلا عما نراه، لا نؤمن فعليًا إلا بما نراه، وندّعي الإيمان بالغيب، عدا هاتِه الفتيات اللاتي يجلسن أمامكِ الآن، فإن الأسئلة لا تتعدّى: شربتِ، أكلتِ، لبستِ، ذهبتِ، جئتِ. حتى يا سيدتي لا يسألون إن كان هناك ما يوجعني، رغم أنه شيء ملموس أيضًا، لكنْ. من يهتمّ لوجع الآخر؟


هؤلاء المخبولات فقط هنّ اللاتي يبادلنني أسئلة عن الأحوال النفسية والمعنوية والقلبية وأسئلة أخرى غريبة جدًا لكننا نفهمها، تلك التي لا يفهمها أيّ أحد، رجلا كان أو امرأة.


أنا أحبّ رئيسي في العمل، رغم أنه متزوج لكنني أحبّه. كلّما حاولتُ أن أبتعد عنه لأعقد مع نفسي هدنة كي لا أظهر شيئًا من حقيقة ما أشعر، وأنّ كل ما أشعر به وهم عليّ التخلص منه، وحتى لو افترضنا أنّه حقيقة فإنّه شخص غير متاح لي، أجد ضعفي قد تضاعف. وأجدني على استعداد لأعترف له بحقيقة مشاعري وليحدث ما يحدث، لولا بقيّة أخيرة من عقل، أو قَدَر لا دخل لي فيه، وكأنّ الله يحميني من نفسي ويحميه منّي! عندما جاءت عروض طلب لنقل بعض الموظفين إلى فرع الشركة بدبي، أردتُ أن أذهب لأبتعد، ربّما كان الاقتراب المادي هو سبب انجذابي له، كما يقول خبراء علم النفس والاجتماع، وقبل أن أطلب الذهاب، قال لي أنّه لا يستغني عن وجودي بجواره، بالطبع كان ذلك كافيًا لينسف فكرة الرحيل عن بكرة أبيها. لا تقلن لي أنّه يقول لي ذلك كموظفة لديه، سئمتُ تلك التحليلات التي تقولها لي الحريم، المتزوجات خصوصًا، إحداهنّ عندما أخبرتها بذلك أخذت تقصّ لي الحكايا تريد منّي أن أتخيّل كم هو سعيد مع زوجته، ولا يفكّر بي ولا بمعاناتي على الإطلاق، وربما يفكّر في الهديّة التي يجلبها بمناسبة عيد الحبّ- ربما على أمل بريء أن أقع على الفور في حبّ زميلي الأعزب! والذي ليس له زوجة مغرمة به-

ليت الأمور تسير بهذه السهولة التي نتحدث بها! حالتي تطورت مؤخرًا.. أو بالأصح، أصبحت متأخرة - بلغة مرضى السرطان! وما الحبّ إلا سرطان؟ وما الرغبة في محبوبنا إلا خلايا سرطانية تنهش في جلودنا وتنتشر دون أن نستطيع السيطرة عليها؟ - مؤخرًا، أصبحتُ أريده بشدّة. اكتفيتُ من حديث الأرواح هذا. أريد أن ألمسه. أعانقه. أريد أن أتذوق قبلته وأشعر بملمس شاربه على شفتيّ. اعذرنني. لكن هذه مطالب طبيعية في الحبّ أليس كذلك؟


كانت ريم تتحدث بانفعال عاشقة، أستطيع أن أفهمها تمامًا. اعتذرتُ لهنّ بعد أن وافقتُها على كلامها. سأحتاج لاحقًا لمزيد من التفاصيل عن حكايتها، عندما تهدأ ثورتها وتنطفئ رغبتها المتأججة، وأتمنى ألا يكون الوقت حينئذ قد فات على شيء ما.


دخلتُ مخدعي بعد أن عرضتُ عليهن المبيت عندي، فالوقت قد تأخّر كثيرًا. على وعد بألا تكون هذه جلستنا الأخيرة معًا. وافقن جميعًا على المبيت بعد أن قمن بما يلزم من اتصالات لطمأنة من ينتظرهنّ وإخبارهم ألا يفعلوا.


كلام ريم قلّب الذكرى التي أخذت تتساقط أمامي كزخّات المطر على واجهة زجاج سيارتي، عندما أخبرتُه أنني أريد أن أفارقه بالمعروف لأول مرة، حدث موضوع السفر إلى أمريكا، تلك المرة التي رأيتُ فيها رائد، وعادت إليّ روحي فيها. عرفتُ بعدها أنّها كانت ما يشبه الرشوة، كي أنسى طلبي، الذي طلبتُه قبل الرحيل، وأن أبقى على ذمّته مقابل أن أزور رائد كما أشاء ومتى أشاء. نعم! هذا ما حدث! لكنني أصررتُ على طلبي. فوجئتُ حينها بغضب هادر، وأسلوب نقاش لم يفاجئني كثيرًا قدر ما أخافني، وأصررتُ أكثر على عدم العودة إلى مصر إلا بعد وعد كامل بالانفصال أوّل ما نصل. لكنّه لم ينفّذ وعده أبدًا. لأنّ الله أراد له أن يرحل قبل أن يفعل، وكأنّ الله يعلم أنه لن ينفذ وعده أبدًا وهو على قيد الحياة. لن أكذب. لم أبكِ كثيرًا، بكيتُ على حالي. وبكيتُ عندما شعرتُ أنني قاسية القلب لأنني لم أبكِ عليه!


لكنّني عرفت بعد ذلك أنها ليست قسوة قلب، فهل من واجب الزوجة أن تبكي زوجها إن مات؟ أي زوجة؟ وأي زوج؟ ما أعرفه تمامًا أنه من واجب أيّ محبّ أن يبكي على فراق حبيبه بموت أو فراق. وعرفتُ أنّ البكاء فعل حبّ، وليس فعل أمر وجَبْرْ. أحيانًا يكون فعل ضعف وعجز. شعرتُ بحريّة غريبة. وكأنني قد أطلق سراحي. أوّل شيء فعلته بعد انقضاء عدّتي، أن وعدتُ رائد أنّ حياتي كلّها له، وأنني لن أتركه أبدًا. وبدأتُ في مراسلة الجامعة في مصر لإرسال أوراقي للعمل في أمريكا ريثما يُشفى حبيبي.


د.كوثر
ابريل 2009