...مذكرات د.كوثر © 2007-2018 جميع الحقوق محفوظة للكاتبة.لا يمكن نسخ أو استخدام أي من المحتوى بأي شكل بدون ذكر المصدر...

Sunday, February 3, 2008

مذكرات ~ 6

لا أصدق أن العطلة تمرّ بهذه السرعة، "مرّت" هو الفعل الأكثر ملاءمة هنا، لأنها فعلت بالفعل !

لم أكمل بعد قراءة الكُتُب التي أردت، لم أحمّل الموسيقى التي أردتُ سماعها، لم أتصل بأصدقاء أردتُ الاتصال بهم، لم أفعل منذ زمن طويل، هناك أصدقاء ظلوا يهاتفونني لفترة دون أن أردّ مكالماتهم، وانقطعوا.. لا ألومهم.
لم يكن عدم اتصّالي لسبب غير الانشغال، لكنني تعلّمت درسًا مهمّا ولكنني لا أطبقه، لنقل أنه درس’طوارئ’ بالنسبة لي
..

..يوجد دومًا الوقت لمكالمة صديق..

ميلي للوحدة ربما سبب آخر لعدم احتكاكي بالآخرين كما ينبغي، حياتي الاجتماعية ليست بهذه الإثارة، خاصّة بعد وفاة زوجي، فهو الذي كان يجلب الضيوف ويُدعى لحفلات العشاء..

لماذا تذكرته الآن؟ لا داعي أبدًا لأن أتذكر قصته الآن فلا أريد أن يرتفع ضغطي مجددًا..

أعتقد أن مزاجي هذه الأيام سوداوي، لذلك أتذكر الأحداث التي تصيبني بحالة من الشجن، بينما أستمع لألحان تزيدني شجنًا..

أذكر أننا تحدثنا طويلا ذلك اليوم على هامش لقاء دكاترة القسم، تحدثنا عن سفره المرتقب إلى أمريكا، وأنه لا يعلم متى بالضبط، لكنه أمر مؤكد وسيحدث أولّما يجهز لذلك، كما أن هناك مؤتمرًا يرتقبه هناك سوف يستغل فرصة وجوده في البلاد ليحضره، دعاني لأذهب لتحضير الدكتوراة هناك، شجعني لأراسل الجامعات الكبرى هناك، أملتُ بأن أذهب وقت ذهابه لنكون معًا هناك..لكن كل هذه الأحلام لم تتخط الخلايا الوردية في رأسي.
دخلتُ ذات يوم الكلية وأنا في قمة الشوق لرؤيته، هرعتُ للقسم وأوّل ما في رأسي أن أمرّ بمكتبه لألقي عليه تحية الصباح، مررتُ بابتسامة عريضة على الجميع، حتى دخلت غرفته فلم أجده..

هرعتُ إلى العاملة مسؤولة الطابق أسألها إن كان الدكتور رائد قد وصل، أخبرتني أنه لم يصل بعد، انتظرتُ في مكتبه لفترة قبل أن أذهب لمباشرة عملي متجهمة وأنا أشعر بأن ثمّة شيء خاطئ..
لم يكن الأمر سهلا على الإطلاق، عندما عدتُ لمنزلي ليلا بعد انتهاء العمل، نظر أبي إليّ نظرة متسائلة فلم أقل له شيئًا وفضلتُ الاختلاء بنفسي تأخذني الأفكار القلقة، لا أحد يردّ على الهاتف ولم أجد جوابًا واثقًا من أحد.

في اليوم التالي ذهبت لغرفته وإذا بدكتور طارق، شريك دكتور رائد في غرفته يخبرني بعد أن سألتُ عنه، أنه قد سافر لأمريكا ليكمل بحثه فجأة، لم يكن هناك المتاح من الوقت ليخبر أحدًا فقد حدث الأمر كله بسرعة كبيرة، شكرته وذهبتُ لغرفة المعيدين ألملم ما تساقط من شوقي وعتابي، لأسكب ذلك كله في سلّة الألم الأبدية..

جاهز هو الألم ليعبث بنا كيف شاء، متى شاء، دون أية حدود أو مساحة لالتقاط أنفاسنا، من يعرفني الآن لا يصدق أنني أكتب هذا الكلام أو أن تلك الفتاة العاشقة ماهي إلا دكتورة كوثر العجوز نفسها، ولا أن قلبي حدث فيه كل هذه الأشياء..

لو أن خبراتنا بقدر أعمارنا لما اخترعنا شيئًا ولما تخطّينا عصر الخِيَام، لكن خبراتنا بأعمار قلوبنا وتجاربنا اليومية، بعدد الثوان التي نعيشها بين الناس..وفي التأمل لما يحدث لنا وللآخرين.

لم أستطع منع نفسي من السخرية قليلا، تعلّمتُ جيدًا أن الألم يزيد عندما نشعر به، وينزوي خجلا عندما نسخر منه ونسمو فوقه ونطوّع قدراتنا- وإن لم تصل- إلى التخلص منه، أو محاولة ذلك.

لكن هذا لم يكن حالي وقتها، كنت أشعر بالألم لبعده المفاجئ وخروجه من حياتي فجأة من جهة، ولعلمي أن أسفار البحوث العلمية تستغرق من الوقت ما تفعل، فهي فرصة لحضور المؤتمرات ولقاء باقي علماء ودكاترة وباحثي نفس المجال أو غيره من المجالات من جهة أخرى..

أي أن رؤيته مرة أخرى بعيدة الاحتمال لنصف سنة على الأقل، وقلّما يحدث هذا...لكنني لم أتوقف عن العمل، ولا عن البدء في مباشرة الدراسة للحصول على الدكتوراة فلم أستطع السفر خارج البلاد، مرض أمي المفاجئ جعلني أرجئ الموضوع، وفي النهاية كل شيء يمكن أن يعوّض.

كان سندي في هذا الوقت أبي، كان صديقي الصدوق، كنا نخرج ونتحدث ونقيم الاحتفالات الصغيرة في بيتنا، وكانت أمي –رحمها الله- تشعر بالعجب، كيف يتحدث زوجها مع هذه المعتوهة، بل ويفهم ما تقول !!

والأدهى من ذلك أنه يردّ عليها !

وبعد شهر تقريبًا، اعتدتُ على غيابه، لم تعد الصدمة الأولى تربكني، رغم أن شوقي له لم يختفِ، ولم يقلّ، لكنني مضيت قُدُمًا في حياتي..

ولم أكن من النوع الذي يستسلم بسهولة..ولا أمام أية ظرف.

ذات صباح وجدتُ ظرفًا من مشرفة الطابق تقول أنه لي من الخارج، لم يكن عليه أية علامات غير طوابع أمريكا..هل ما أفكر به صحيح؟

قطعتُ طرف الظرف بيدي، وأخرجتُ الورقة ونظرتُ لآخر سطر فيها
... رائد...

وفوق السطر كانت دمعتي..المستسلمة.


د.كوثر
فبراير 2008